إن الحمد لله له الحمد الحسن والثناء الجميل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا
أما بعد،،،
فقد أخرج الإمام أبو نعيم في كتابه ((حلية الأولياء)) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((من تواضع لله رفعه الله)). وصححه الشيخ الألباني.
ولا تجد خلقا حث النبي إلا وقد بلغ فيه الذروة والمنتهى
فمثلا
في حسن الخلق أحاديث كثيرة جدا منها ما أخرجه الإمام الترمذي في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)) وصححه الشيخ الألباني.
ومنها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي كان يقول: ((إن خياركم أحاسنكم أخلاقا)).
ومنها ما أخرجه الإمام أبو داود في سننه عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)) وصحح الشيخ الألباني.
وغير ذلك من الأحاديث المتكاثرة التي تبين فضل حسن الخلق فكان النبي صاحب الخلق الرفيع والأدب العالي ولا يدانيه فيه أحد حتى مع أعداءه.
وكذلك في حثه أن يكون الإنسان في خدمة أهل بيته ويعاملهم بالمعروف، فكان كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها لما سئلت كيف كان يصنع النبي في بيته فقالت: ((كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج)) والحديث في صحيح البخاري.
وقوله فيما أخرجه الإمام الترمذي في سننه: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) وصححه الشيخ الألباني.
وكذلك قوله : ((إن حسن العهد من الإيمان)) أخرجه الإمام الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني.
فكان أحسن الناس عهدا مع أهل بيته وأصحابه بل وأعدائه.
وهكذا لو تتبعت كل الأخلاق الكريمة ستجد النبي قد نال القدح المعلى فيها.
ولا عجب في ذلك فهو القائل : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد وصححه الشيخ الألباني.
وكذلك ما نحن بصدده في موضوعنا هذا فقد حثنا النبي على التواضع كما أسلفنا في صدر الموضوع
والنبي هو سيد المتواضعين
ومن تواضعه ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ، قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي)).
ربما لا يظهر موضع الشاهد على تواضعه من هذا الحديث، وهذا إنما يرجع لعجمتنا وبعدنا عن لغتنا
النبي إنما أراد أن يقول تواضعا لمقام سيدنا إبراهيم عليه السلام إن إبراهيم فيما يبدوا أنه شك بسؤاله هذا ولكنه عليه السلام إنما سأله زيادة للاطمئنان وحتى لا يقول أحد شك إبراهيم عليه السلام ولم يشك محمد قال نحن أحق بالشك من إبراهيم.
وهذا قمة التواضع، فالنبي لم يرد أن يقول أحد كلمة كهذه فسد الباب على من يريد قولها بقوله نحن أحق بالشك من إبراهيم.
وأيضا فمعنى الكلام أنه لا شك في الإيمان بالله وأنه لو جاز الشك لكنت أولى به من إبراهيم عيه السلام، يشير إلى فضل الخليل عليه السلام.
وكذلك قوله ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي، فهو إنما أراد أن يبين قدر سيدنا يوسف عليه السلام ومدى صبره وقوته، أنه لما جاءه الداعي قال له ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ولا يشك أحد أن النبي لو لبث في السجن أكثر من سيدنا يوسف لما أجاب الداعي. أو أنه من باب اختياره لأيسر الأمرين ما لم يكن إثما.
ولا يشك أحد أن أفضل الأنبياء مقاما هو النبي محمد لكنه كما قلت سيد المتواضعين ويعلمنا كيف نتواضع لله عز وجل وألا تأخذنا نفخة الغرور ورؤية النفس واحتقار الآخرين
وهو القائل: ((آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)) أخرجه الإمام ابن سعد في الطبقات وصححه الشيخ الألباني.
وحتى فيما هو قضاء الله وقدره عليه من رفعته على جميع الخلق كان متواضعا فقال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)).
فالله قدر عليه هذا ومع ذلك من تواضعه قال ولا فخر.
والتواضع هذا ليس مذلة كم يتوهم البعض وإنما هو من تمام الإيمان، بل ويرفع العبد عند ربه درجاته
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال حدثنا يزيد، أخبرنا عاصم بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر عن عمر - قال: لا أعلمه إلا رفعه - قال: (( يقول الله تبارك وتعالى: من تواضع لي هكذا - وجعل يزيد باطن كفه إلى الأرض، وأدناها إلى الأرض- رفعته هكذا -وجعل باطن كفه إلى السماء، ورفعها نحو السماء- )).
فالتواضع لله رفعة في الدرجات وفي المكانة عند الله عز وجل وأخسر الناس من يسعى لرفع درجته بين الناس ولا يسعى لرفع درجته عند ربه
فهؤلاء الذين يسعون إلى المناصب ليقال فلان رئيس كذا وفلان المسئول عن كذا، هؤلاء وإن كسبوا الرفعة في الدنيا، فقد خسروها في الآخرة، وسيقال لهم إنما فعلتم ليقال كذا وقد قيل، فيذهب ما عملوه هباء منثورا.
لذلك قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ((إنكم لتغفلون أفضل العبادة التواضع)).
لماذا؟
لأن التواضع كما قلنا يرفع الدرجات عند الله، ولا يكلف العبد الكثير لكن في نفس الوقت لا يقدر عليه إلا صاحب الإيمان القوي.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله : أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)) أخرجه الإمام ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي)) أخرجه مسلم.
وأهل التواضع هم أهل الجنة قال رسول الله صلى الله : ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟، كل ضعيف متضعف)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومتضعف إما بفتح العين معناها يستضعفه الناس، وإما بكسر العين ومعناها المتواضع الذي لا كبر فيه ولا فخر ولا تعاظم، فهذه صفة أهل الجنة.
ولذلك حذرنا النبي من الكبر فقال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) أخرجه البخاري ومسلم.
فعتل معناها الرجل الجافي شديد الخصومة بالباطل وهذا من الكبر وجواظ معناها الجموع المنوع الذي يجمع المال مثلا ويمنعه عن الناس، أو يحصل على المنصب ويتعالى على الناس ومستكبر معروف معناها فهي من الكبر والتخايل والتفاخر
فهذه صفات أهل النار وهي ضد صفات أهل الجنة التي هي التواضع والخمول والنقاء والخفاء وترك السمعة والرياء.
وقد رغب النبي حتى في التواضع الظاهر فقال: ((من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)) أخرجه الإمام الترمذي وصححه الشيخ الألباني.
والمقصود أنه من كان يقدر على شراء الغالي والنفيس من الثياب فترك ذلك ولبس الثياب العادية ليس شحا وإنما تواضعا لله عز وجل خيره الله بين الحلل التي أعدها الله لأهل الإيمان في الجنة، يلبس أيها شاء.
ومن الضروري أنه من ترك الثياب الفاخرة تواضعا لله إنما هذا تواطأ لما في قلبه من التواضع أي تواطأ الباطن مع الظاهر، فهو متواضع في نفسه وداخله، ومتواضع حتى في الظاهر، وليس المقصود التواضع الظاهر المصطنع، كالغني الذي لا يلبس الثياب الفاخرة ليقول عنه الناس رجل متواضع، فهذا ليس متواضعا لله، وهذا متواضعا في الظاهر فقط وليس هذا ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مقاصد هذه الشريعة الغراء أن يتواطأ الباطن مع الظهر في كل شيء إلا في استثناءات شرعية كالمداراة والمعاريض وقول الكفر حال الإكراه مثلا فهذه الأفعال مأذون فيها شرعا.
وإن سلفنا الصالح ضربوا لنا أروع الأمثلة في التواضع والخمول ولولا أني لا أريد الإطالة لذكرت مواقف من حياتهم تدل على تواضعهم، وربما نفرد لذلك موضوع منفرد إن شاء الله تعالى.
فالتواضع مركب لا يغرق راكبه من خفته وتواضعه تضعفه واحتقار نفسه بعكس المتكبر الذي يركب مركب الكبر فهو مركب يغرق صاحبه لا محالة إن عاجلا وإن آجلا
ورحم الله الشافعي إذ يقول في التواضع: كلما أدبني الدهر ... آراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علما ... زادني علما بجهلي
ورحم الله القائل:
كم جاهل متواضع ... ستر التواضع جهله ومبرز في علشمه ... هدم التكبر فضله فدع التكبر ماحييت ... ولا تصاحب أهله والكبر عيب للفتى ... أبدا يقبح فعله
وإن الله تبارك وتعالى إنما امتدح عباده الذين يمشون في تواضع وسكينة ودعة فقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]
وما هي إلا إشارة والذكي ينتفع بالإشارات والتلميحات خلاصة